الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
إنّ القرآن الكريم في مختلف سوره و آياته ينقد أقوال بعض من الصحابة و أفعالهم بوضوح كما أنّه في بعض آياته يثني على طائفة منهم، فها نحن ندرس بعض الآيات التي تنقد أفعال بعضهم و آراءهم.
1. تنبّؤ القرآن بارتداد لفيف من الصحابة: القرآن يتنبّأ بإمكان ارتداد بعض الصحابة بعد رحيل الرسول(ص). و ذلك لمّا انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحد و قتل من قتل منهم.
يقول ابن كثير: نادى الشيطان على أنّ محمّداً(ص) قد قتل. فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس و اعتقدوا أنّ رسول اللّه(ص) قد قتل و جوّزوا عليه ذلك، فحصل ضعف و وهن و تأخّر عن القتال، روى ابن نجيح عن أبيه إنّ رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحّط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أنّ محمّداً(ص) قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمّد قد قتل فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل اللّه سبحانه قوله: «وَما مُحمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ ماتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعقابِكُمْ و مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيئاً و سَيَجْزي اللّهُ الشّاكِرين».(1)
قال ابن قيّم الجوزية: كانت وقعة أُحد مقدّمة و إرهاصاً بين يدي محمّد (ص) و نبّأهم و و بّخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول اللّه أو قتل.(2)
والظاهر من الارتداد هو الأعمّ من الارتداد عن الدين الذي جاهر به بعض المنافقين و الارتداد عن العمل كالجهاد و مكافحة الأعداء و تأييد الحقّ إنساء ما أوصى به رسول اللّه (ص).
وهذه الآية تخبر عن إمكانية الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل الرسول، فهل يمكن أن يوصف بالعدالة التامّة الّتي هي أُخت العصمة من كان يُحتمل فيه تلك الإمكانية؟
2. خيانة بعض البدريّين: يقول سبحانه: «وَما كانَ لِنَبىّ أن يغُلَّ و مَنْ يَغْلُل يَأْتِ بِما غَلَّ يَوم القِيامَةِ ثُمّ توفّى كُلّ نَفس ما كَسَبَتْ و هُمْ لا يُظْلمُون»(آل عمران:161).
قال ابن كثير: نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعلّ رسول اللّه أخذها فأكثروا في ذلك، فأنزل اللّه: «وَما كانَ لِنَبيّ أن يغلّ و مَنْ يَغْلل يَأْتِ بِما غلّ يَوم القِيامَة» و هذا تنزيه له (ص) من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة و قسم الغنيمة، ثمّ تبيّن أنّه قد غلّ بعض أصحابه.(3)
الآية تعرب عن مدى حسن ظنّ بعض الصحابة و اعتقادهم برسول اللّه(ص) حتّى اتّهموه بالخيانة في الأمانة و تقسيم الأموال، ثمّ تبين أنّه قد غلّه بعض أصحابه. فهؤلاء الجاهلون بمكانة النبي، أو من مارس الخيانة في أموال المسلمين لا يوصفون بالعدالة. و هذا حال بعض البدريين، لا الأعراب و لا الطلقاء و لا أبنائهم و لا المنافقين، فكيف حال من أتى بعدهم؟
3. تنازعهم في الغنائم إلى حدّ التخاصم: إنّ صحابة النبي بعد انتصارهم على المشركين في غزوة بدر، استولوا على أموالهم و تنازعوا فيها إلى حدّ التخاصم، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها و جمعناها فليس لأحد فيها نصيب. و قال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحقّ بها منّا و نحن منعنا عنه العدوّ و هزمناهم. و قال الذين أحدقوا برسول اللّه: لستم بأحقّ بها منّا نحن أحدقنا برسول اللّه(ص) و خفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة و اشتغلنا به، فنزل: «يسألونك عن الأنفالِ قُل الأَنفالُ للّهِ و الرَّسُولِ فاتَّقُوا اللّه و أصلحوا ذات بَيْنِكم و أَطيعوا اللّه و رسوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤمنين»(الأنفال:1).
قال ابن كثير: سأل أبو أمامة عُبادة عن الأنفال؟ قال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل و ساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه اللّه من أيدينا و جعله إلى رسول اللّه، فقسّمه رسول اللّه بين المسلمين عن سواء.(4)
وفي الآية إلماعات إلى سوء أخلاقهم حيث يعظ سبحانه هؤلاء السائلين و يأمرهم بأُمور ثلاثة بقوله:
1. «واتقوا اللّه» في أُموركم و أصلحوا فيما بينكم و لا تظالموا و لا تخاصموا و لا تشاجروا، فما آتاكم اللّه من الهدى و العلم خير ممّا تختصمون بسببه. 2. «وأصلحوا ذات بينكم»: أي لا تسبّوا. 3. «و أطيعوا اللّه و رسولـه»: أي لا تخالفوه و لا تشاجروا.(5)
4. فاسق يغرّ النبيّ و أصحابه: يقول سبحانه: «يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوماً بِجَهالة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين» (الحجرات:6). أمر اللّه سبحانه بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلاّ يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً.
قال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسّرين أنّ الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول اللّه(ص) على صدقات بني المصطلق إلى حارث بن ضرار و هو رئيسهم ليقبض ما كان عنده ممّا جمع من الزكاة، فلمّا أن سار الوليد حتّى بلغ بعض الطريق فرق ـ أي خاف ـ فرجع حتّى أتى رسول اللّه(ص) فقال: يا رسول اللّه إنّ الحارث قد منعني الزكاة و أراد قتلي، فغضب رسول اللّه(ص) و بعث البعث إلى الحارث ـ رضي اللّه عنه ـ و أقبل الحارث بأصحابه حتّى إذا استقبل البعث و فصل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث. فلمّا غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: و لم؟ قالوا: إنّ رسول اللّه(ص) بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنّك منعته الزكاة و أردت قتله، قال ـ رضي اللّه ـ عنه: لا و الذي بعث محمّداً(ص) بالحقّ ما رأيته بتة و لا أتاني، فلمّا دخل الحارث على رسول اللّه(ص) قال: منعتَ الزكاة و أردتَ قتل رسولي؟ قال: لا، و الذي بعثك بالحقّ ما رأيته و لا أتاني، و ما أقبلت إلاّ حين احتبس عليّ رسول اللّه(ص) خشيت أن تكون سخطة من اللّه تعالى و رسوله، قال: فنزلت الحجرات:«يا أيُّها الّذين آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسق بنبأ» إلى قوله: «حكيم».(6)
5. استحقاقهم مسّ عذاب عظيم: كانت السنّة الجارية في الأنبياء الماضين انّهم إذا حاربوا أعداءهم و ظفروا بهم ينكّلون بهم بالقتل ليعتبر به من و راءهم حتّى يكفّوا عن عدائهم للّه و رسوله، و كانوا لا يأخذون أسرى حتّى يثخنوا في الأرض و يستقر دينهم بين الناس، فعند ذلك لم يكن مانع من الأسر، ثمّ يعقبه المنّ أو الفداء.
يقول سبحانه: «فإذا لَقِيتُمُ الّذين كَفَروا فَضربَ الرِّقابِ حتّى إِذا أَثخَنْتُموهُمْ فَشدّوا الوَثَاقَ فإِمّا منّاً بعدُ و إِمّا فِداء»( محمد:4). فأجاز الله أخذ الأسر، لكن بعد الإثخان في الأرض و استتباب الأمر.غير أنّ لفيفاً من الصحابة كانوا يصرون على النبي بالعفو عنهم و قبول الفداء منهم (قبل الإثخان في الأرض) فأخذوا الأسرى، فنزلت الآية في ذم هؤلاء و عرّفهم بأنّهم استحقوا مسَّ عذاب عظيم لولا ما سبق كتاب من اللّه، يقول سبحانه: «ما كان لنبيّ أن يكونَ لَهُ أَسرى حتّى يُثخِن فِي الأَرض تُريدُونَ عَرَض الدُّنيا و اللّهُ يُريدُ الآخرة و اللّهُ عَزيزٌ حَكيم* لَولا كِتابٌ مِنَ اللّه سَبق لَمَسَّكُم فيما أخذتُمْ عذابٌ عَظيم» ( الأنفال:67ـ 69).
والمستفاد من الآيتين أمران:
الأوّل: انّ الحافز لأكثرهم أو لفئة منهم هو الاستيلاء على عرض الدنيا دون الآخرة كما يشير إليه سبحانه بقوله: «تُريدُونَ عَرَض الدُّنيا و اللّهُ يُريدُ الآخرة»(الأنفال:67).
الثاني: لقد بلغ عملهم من الشناعة درجة، بحيث استحقُّوا مسَّ عذاب عظيم، غير أنّه سبحانه دفع عنهم العذاب لما سبق منه في الكتاب، قال سبحانه: «لَولا كِتابٌ مِنَ اللّه سَبق لَمَسّكُمْ فيما أَخذتُم (أخذ الأسرى)عذاب عظيم».
فقوله:«عذاب عظيم»يعرب عن عظم المعصية التي اقترفوها حتّى استحقوا بها العذاب العظيم. أفيمكن وصف من أراد عرض الدنيا مكان الآخرة واستحقّ مس عذاب عظيم بأنّه ذو ملكة نفسانية تصده عن اقتراف الكبائر و الإصرار على الصغائر، كلاّ، و لا.
6. الفرار من الزحف: إنّ المسلمين عصوا أمر الرسول يوم أُحد، و تركوا مواقعهم على الجبل طمعاً في الغنائم فأصابهم ما أصابهم من الهزيمة التي ذكرتها كتب السيرة و التاريخ على وجه مبسوط. و بالتالي تركوا النبيّ (ص) في ساحة الحرب و ليس معه إلاّ عدد قليل من الصحابة، و لم تنفع معهم دعواته (ص) بالعودة إلى ساحة القتال و نصرته، فقد خذلوه في تلك الساعات الرهيبة، و أخذوا يلتجئون إلى الجبال حذراً من العدو، و يتحدّث سبحانه تبارك و تعالى عن تلك الهزيمة النكراء بقوله: «إِذْ تُصْعِدونَ و لا تَلوُونَ عَلى أَحَد و الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ في أُخراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ و لا ما أَصابَكُمْ و اللّه خَبيرٌ بِما تَعْمَلُون».( آل عمران:153)
نعم كان هذا وصف طوائف منهم و كانت هناك طائفة أُخرى، التفت حول النبي و دفعت عنه شرّ الأعداء، و هم الذين أُشير إليهم بقوله سبحانه: «وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكرين».( آل عمران:144)
ثمّ إنّه سبحانه يصرح بتولّيهم و فرارهم عن الجهاد و ينسب زلّتهم إلى الشيطان و يقول: «إِنّ الّذين تَوَلَّوا مِنْكُمْ يَومَ التَّقى الجَمْعَانِ إِنّما استَزَلَّهُمُ الشَّيطانُ ببعْضِ ما كَسَبُوا و لَقَدْ عَفا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحيم».( آل عمران:155) و ليس هؤلاء من أصحاب النفاق (لأنّ المنافق لا يُغفر له و لا يعفى عنه) بل من الصحابة العدول!
7. نسبة الغرور إلى اللّه و رسوله: إنّ غزوة الأحزاب من المغازي المعروفة في الإسلام، حيث اتحد المشركون و اليهود للانقضاض على الإسلام، فحاصروا المدينة و هم عشرة آلاف مدجّجين بالسلاح، و حفر المسلمون خندقاً حول المدينة لمنع العدو من اقتحامها و قد طال الحصار نحو شهر. و في هذه الغزوة امتحِن أصحابُ النبي (ص) و زلزلوا زلزالاً عظيماً ، و تبيّن الثابت من المستزلّ، و انقسم أصحابه إلى قسمين:
1. المؤمنون و شعارهم «هذا ما وعدنا اللّهُ و رسولُهُ و صدق اللّهُ و رسولُهُ و ما زادهم إلاّ إيماناً و تسليماً».( الأحزاب:22)
2. المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و شعارهم:«ما و عدنا اللّه و رسوله إلاّ غروراً».( الأحزاب:12)
فضعفاء الإيمان من المؤمنين كانوا يظنون باللّه انّه و عدهم وعداً غروراً، فهل يصحّ وصف هؤلاء بالعدالة و التزكية؟! و هم ـ طبعاً ـ غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر، و يدلّ على ذلك، عطف «والّذينَ في قُلُوبهم مرضٌ»على المنافقين، قال سبحانه: «وَإِذ يَقُولُ المُنافِقُونَ و الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ».
ومن يمعن النظر في الآيات الواردة حول غزوة الأحزاب يعرف مدى صمود كثير من الصحابة أمام ذلك السيل الجارف، فإنّ كثيراً منهم كانوا يستأذنون (ص) للرجوع إلى المدينة بحجة انّ بيوتهم عورة و يقول سبحانه: « و ما هي بِعَورة ان يُريدون إِلاّ فراراً و لقَد عاهدوا اللّه من قَبل لا يولون الأَدبار و كانَ عَهْد اللّه مسؤولاً». (الأحزاب:13)
8. المنافقون المندسّون بين الصحابة: لقد شاع النفاق بين الصحابة منذ نزول النبي، بالمدينة، و قد ركّز القرآن على عصبة المنافقين و صفاتهم، وفضح نواياهم، و ندّد بهم في السور التالية: البقرة، آل عمران، المائدة، التوبة، العنكبوت، الأحزاب، محمد، الفتح، الحديد، المجادلة، الحشر، و المنافقون.
وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي، بين معروف عرف بسمة النفاق و وصمة الكذب، و غير معروف بذلك، و لأنّه مقنّع بقناع الإيمان والحب للنبي، فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم.
وهناك ثلة من المحقّقين ألّفوا كتباً و رسائل حول النفاق و المنافقين، و قد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم. و مع ذلك فهل يمكن عد جميع من صحب النبي(ص) عدولاً؟!
نعم المنافقون ليسوا من الصحابة و لكنّهم كانوا مندسّين فيهم، و عند ذلك فكثيراً ما يشتبه الصحابي الصادق بالمنافق، و لا يتميّز المنافق عن المؤمن، حتّى أنّ النبي(ص) ربما كان لا يعرفهم، يقول سبحانه:
«وَمِنْ أَهل المَدينة مردوا عَلى النِّفاق لا تعلمهم نَحْنُ نعلَمهم».( التوبة:101)
فهذا يجر الباحث ـ الذي يريد الإفتاء على ضوء ما قاله الصحابة ـ التفتيش عن حال الصحابي حتّى يعرف المنافق عن غيره، فلو اشتبه الحال فلا يكون قوله و لا روايته حجّة.
فالحاصل: هذه الآيات إذا انضمت إلى الآيات المادحة يخرج المفسر بنتيجة واحدة، و هي انّ مَن صحب النبي كان بين صالح و طالح، و بين من يُستدر به الغمام و من لا يساوي إيمانه شيئا، و كما أنّ القرآن الكريم في مختلف سوره و آياته يثني على طائفة من الصحابه، هكذا ينقد أقوال بعض من الصحابة و أفعالهم بوضوح، و ليس كل الصابة عدولا.(7)
لا يوجد تعليق